تطور الانقلابات في تركيا ومحاولات وأد الديمقراطية بتونس.

المؤلف: د. ياسين أقطاي08.16.2025
تطور الانقلابات في تركيا ومحاولات وأد الديمقراطية بتونس.

تشهد تركيا، التي تمتلك سجلاً تاريخياً مثقلاً بالانقلابات العسكرية، تحولاً ملحوظاً في مفهوم الانقلاب خلال السنوات الأخيرة.

فقد انتقلت البلاد من الانقلابات الصارخة التي وقعت في أعوام 1960 و1971 و1980، حيث كان الجيش التركي يفرض سيطرته المطلقة على جميع المؤسسات، ويُعطّل عمل البرلمان، ويُجمّد أنشطة الأحزاب السياسية، إلى نمط مختلف جذرياً يُعرف بـ "انقلابات ما بعد الحداثة"، والتي ظهرت للمرة الأولى في تركيا عام 1997.

في هذا النوع من الانقلابات، يتم تحريك الأحداث من خلال بيانات غامضة تصدر عن كبار القادة العسكريين الذين يرفضون الكشف عن هوياتهم، مهددين بالنزول إلى الشوارع دون الحاجة إلى ذلك فعلياً. لقد وجدوا طريقة مُثلى للتأثير في المشهد السياسي دون تدخل مباشر وصريح.

ففي انقلاب عام 1997، بدلاً من السيطرة المباشرة على المؤسسات، عمد الجيش إلى التنسيق مع حلفاء له في الأوساط السياسية المدنية والمنظمات غير الحكومية، وأجبر الحكومة على الاستقالة تحت وطأة ضغوط إعلامية مُمنهجة.

في تلك الأحداث، لم يكن هناك انقلاب عسكري سافر وعلني، لكن الجميع كانوا على دراية بأن الظروف السياسية التي أرغمت الحكومة على الاستقالة كانت نتيجة لتدبير من المؤسسة العسكرية. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف الجيش التركي عن التدخل في الشؤون السياسية.

في تلك الحقبة، كان المشهد السياسي يُدار بواسطة بيانات صادرة عن قادة عسكريين رفيعي المستوى يُخفون هوياتهم، ملوحين بالخروج من الثكنات دون الحاجة الفعلية لذلك، وبذلك، اكتشفوا الوسيلة الأمثل للتأثير على مجريات السياسة دون التورط المباشر.

وعندما حانت الانتخابات الرئاسية في عام 2007، سنحت لحزب العدالة والتنمية فرصة لممارسة الحكم وفقاً لمقتضيات الدستور، لكن الجيش سعى مرة أخرى إلى عرقلة الحزب وحرمانه من حقوقه، وذلك عبر إخضاع الدستور لتفسيرات متطرفة وملزمة، مستغلاً نفوذه داخل المحكمة الدستورية.

وفي سياق متصل، نشر الجيش بياناً على شبكة الإنترنت في منتصف الليل، وكان من المتوقع أن تدفع هذه الخطوة الحكومة إلى الاستقالة الفورية، لكن خلال 24 ساعة من ذلك البيان العسكري، أصدرت الحكومة بياناً مضاداً تؤكد فيه تمسكها بأحكام الدستور التي تنص على خضوع الجيش لسلطة الحكومة وليس العكس. لقد كانت هذه الخطوة المضادة مفاجأة مدوية، لأنها المرة الأولى التي يتم فيها التعبير علناً عن معارضة التدخلات العسكرية، وقد قوبل هذا الموقف بتقدير بالغ من الشارع التركي، وشكل ثورة ضد تقاليد التدخل العسكري في الشأن السياسي.

لكن ذلك لم يضع حداً للطموحات الانقلابية، حيث ظلت هذه الممارسات حاضرة على الدوام، وأحياناً تتنكر في صورة استجابة لمطالب الشعب.

وفي عام 2013، اندلعت محاولة انقلابية أخرى، اختبأت خلف الاحتجاجات التي شهدها ميدان تقسيم. في البداية، بدا الجيش بعيداً عن المشهد، لكن هذه المظاهرات الفوضوية رفعت لاحقاً شعارات تدعو إلى التدخل العسكري. وقد استطاع الرئيس رجب طيب أردوغان، بفضل حنكته القيادية وقدرته الفائقة على حشد الجماهير، أن يقطع الطريق أمام هذا المخطط الخبيث.

وبعد مرور ستة أشهر فقط، وقعت محاولة انقلابية أخرى في 17 ديسمبر/كانون الأول، حيث تم استخدام القضاء لاتهام أعضاء الحكومة بالفساد. هذا المخطط، الذي كان يقف وراءه فتح الله غولن وأعوانه من قضاة ومدّعين عامين وشرطة وإعلاميين، أفشله أردوغان مرة أخرى بشخصيته القوية وصلابته.

ويمكن للانقلابات أن تقع دون سابق إنذار، وهذا ما شهدناه في 15 يوليو/تموز 2016، عندما حاول جنود موالون لفتح الله غولن الانقلاب على الشرعية من خلال السيطرة المباشرة على مؤسسات الدولة، لكن هذه المرة لم يضع الانقلابيون في الحسبان التحولات الاجتماعية العميقة التي شهدتها تركيا، وردّ فعل الشعب التركي الشجاع.

ووقعت أيضاً محاولات أخرى للتدخل العسكري بطرق غير مباشرة من خلال التأثير على نتائج الانتخابات، لكنها باءت أيضاً بالفشل الذريع.

من الواضح بجلاء أن الأطراف نفسها التي كانت تقف وراء أحداث ساحة تقسيم والمحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/تموز هي أيضاً التي تحاول إنهاء الربيع العربي، حيث لم تأت تلك التحركات بتعليمات من داخل تركيا فحسب، بل أيضاً من الخارج، وبالتحديد من دولة الإمارات العربية المتحدة، التي كان لها، خلال السنوات الماضية، تأثير كبير على الجيل الجديد من الانقلابيين في تركيا.

يوجد في العالم الإسلامي نوعان متباينان من الممارسة السياسية، الأول هو الديمقراطية، والثاني هو الانقلابات الموجهة ضد الديمقراطية.

من المعلوم أن تونس هي الدولة التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي، وهي المعقل الذي تحصنت به الديمقراطية وظلت صامدة ببسالة، لذلك فإن الأطراف المذكورة أولت اهتماماً كبيراً بإسقاط هذه المنظومة، إذ إن القوى الانقلابية ترى في صمود النموذج الديمقراطي، الذي صنعه الربيع العربي، أمراً بالغ الإزعاج والتهديد لمصالحها.

منذ أمد بعيد، لم يعد يخفى على أحد أن هناك جهوداً مضنية تُبذل لخنق الثورة التونسية، لكن تونس تبقى مختلفة عن مصر، حيث لا يوجد فيها جيش يسيطر على السياسة والاقتصاد بشكل كامل. كما أن القوات الحاملة للسلاح تنقسم إلى شرطة وجيش، والنقابات التي شاركت بفاعلية في المسار الثوري من الصعب إقناعها بسيناريو مصر وسوريا المأساوي.

كل هذه العوامل كانت تجعل من فرضية حدوث انقلاب واضح المعالم في تونس مستبعدة إلى حد كبير، إلا أن استخدام رئيس منتخب من أجل تنفيذ الانقلاب يُظهر بجلاء حجم المخطط وخطورته الكامنة. إن حدوث انقلاب يقوده رئيس يتمتع بشرعية الانتخابات ضد برلمان منتخب ديمقراطياً، هو بمثابة باكورة عمليات اغتيال المسار الانتخابي، ولا يمكن أن يكون ذلك في صالح البلاد على الإطلاق، أو في صالح الرئيس المنتخب نفسه، بل إنه سيقوض بشكل خطير شرعية الرئيس ويضعها على المحك.

لا يمكن لأحد أن يدعي على الإطلاق أنه تم تنفيذ هذا الانقلاب باسم الشعب التونسي النبيل أو لمصلحته العليا، بل إن الهدف الحقيقي والوحيد منه هو إنهاء التجربة الديمقراطية الوليدة، وجعل الشعب التونسي يندم ندماً شديداً على مغامرته الجريئة لتحقيق هذا الحلم المنشود.

إن استخدام رئيس منتخب من أجل اغتيال الديمقراطية، نيابة عن فرنسا وبعض دول الخليج وأطراف انقلابية أخرى خبيثة، يُظهر بجلاء مدى الخبث والتفكير الشيطاني الماكر لمن خططوا لهذا الأمر الدنيء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة